حكم ترتيب كفارة الجماع
وأعني بالترتيب أن لا ينتقل المكلف إلى واحد من الواجبات المخيرة إلا بعد العجز عن الذي قبله، وبالتخيير أن يفعل منها ما شاء ابتداء من غير عجز عن الآخر فإنهم أيضا اختلفوا في ذلك، فقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وسائر الكوفيين: هي غير مرتبة، فالعتق أولا، فإن لم يجد فالصيام، فإن لم يستطع فالإطعام. وقال مالك: هي على التخيير. وروى عنه ابن القاسم مع ذلك أنه بستحب الإطعام أكثر من العتق ومن الصيام.
وسبب اختلافهم في وجوب الترتيب تعارض ظواهر الآثار في ذلك والأقيسة، وذلك أن ظاهر حديث الأعرابي المتقدم يوجب أنها على الترتيب إذ سأله النبي عليه الصلاة والسلام عن الاستطاعة عليها مرتبا، وظاهر ما رواه مالك من "أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتق رقبه أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينا" أنها على التخيير، إذ أو إنما تقتضي في لسان العرب التخيير، وإن كان ذلك من لفظ الراوي الصاحب، إذ كانوا هم أقعد بمفهوم الأحوال ودلالات الأقوال.
وأما الأقيسة المعارضة في ذلك فتشبيهها تارة بكفارة الظهار وتارة بكفارة اليمين، لكنها أشبه بكفارة الظهار منها بكفارة اليمين، وأخذ الترتيب من حكاية لفظ الراوي. وأما استحباب مالك الإبتداء بالإطعام فمخالف لظواهر الآثار، وإنما ذهب إلى هذا من طريق القياس، لأنه رأى الصيام قد وقع بدله الإطعام في مواضع شتى من الشرع، وإنه مناسب له أكثر من غيره بدليل قراءة من قرأ {وعلى الذين يطوقونه فدية طعام مساكين} ولذلك استحب هو وجماعة من العلماء لمن مات وعليه صوم أن يكفر بالإطعام عنه، وهذا كأنه من باب ترجيح القياس الذي تشهد له الأصول على الأثر الذي لا تشهد له الأصول.
=======
المصدر: بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد الحفيد.